فى رحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم
بقلم أ. محمد حسان حماد
نحمدك يا من أوضحت لنا سبل الهداية وأزحت عن أبصارنا غشاوة الغواية ، ونصلي ونسلم على من أرسل شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسرجا منيرا .. وعلى الأصحاب الذين هجروا الأوطان يبتغون من الله الفضل والرضوان ، والأنصار الذين ءاووا ونصروا وبذلوا لإعزاز الدين ما جمعوا وما ادخروا ...
أما بعد
النبوة هبة لا كسب فيها والأنبياء قبل أن يبعثوا لم يكن يدور فى خلدهم أنهم سيبعثون وما كانوا يطلبون ذلك...(وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) .
ـ وحياة الأنبياء قبل بعثتهم توطئة صادقة لما ينتظرهم من أمانة عظيمة ، وحياة حافلة بالأحداث والملمات التى تحتاج إلى جهد ومجاهدة وصبر واصطبار ،
ـ ويأتي فى هذا السياق أن الأنبياء كانوا يشتغلون قبل بعثتهم برعي الغنم ، وفى هذا التفاتة إلى التدريب على الصبر و حسن السياسة وكأنها تمهيد إلى الإنتقال من رعي الغنم إلى قيادة الأمم.
ـ ولقد عاش محمد صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قبل بعثته ، يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق .. ولم يعرف عنه أنه يمتلك ثروة هائلة من الأموال والأطيان ، بل تربى يتيما فقيرا ً عائلا ً .
ـ غير أن الذي اتفق عليه القاصى والداني والعدو والصديق والقريب والبعيد، أن ثروته من الفضائل كانت رابية .. وأنه أوفى من المجد والسيادة والرجولة والأخلاق ما لا ينازعه فيه أحد من البشر .. كيف لا يكون كذلك وهو اختيار الله .. والله هو صاحب الكمال المطلق بلا تحديد ولا تصور... فإذا اختار الله سبحانه انصرفت مشيئته إلى الكمال ..
ـ والأصل فى الاختيار الإنساني أنه يبحث فى الرسول عن صفات جوهرية كالأمانة والفضل والقدوة والشرف .. وذلك لضمان توصيل الرسالة كما هى .
ـ واختيار الله هو الدقة المطلقة ، ويختلف تماما ً عن الإنسان الذي يحكم بالظن والتصور ، إذ يختار الله تعالى وهو يعلم حقيقة الضمائر ومزاج القلوب ومعادن النفوس .
ـ ومن هنا نفهم أن جميع أنبياء الله كانوا أشرف الخلق قلبا وقالبا .. وكانوا أفضل معادن البشر على الأرض .. وهذا هو الأصل فيهم قبل اختيارهم للرسالة..
ـ فإذا وقع عليهم اختيار الله عز وجل ، اضاءوا بشرف يستمدونه من جلال الله ذاته..واضاءوا بشرف مهمتهم الجديدة فى تصحيح فكرة الإنسان عن الخالق.
ـ وهكذا يزيد قدر النبي - أي نبي- بعد البعثة للناس وتكليفه بالرسالة..يزيد قدره شرفا ً وسموا ً.
ـ وكل أنبياء الله كانوا قمما شامخة فى الكرامة الانسانية واحترام الإنسان...
ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو آخر البناء الشامخ .. ولهذا جاء فضله أعلى فضل فى طبقته.. فمبلغ العلم أنه بشر.. وأنه خير خلق الله كلهم .
ـ وعندما نتحدث عن رسول الله فإن المرء يشعر بالفخر والإعزاز بالانتساب إليه دينا ونسبا ،لا أقف بها عند حد الافتخار بل تضاعف من مسؤوليتي تجاه دينه وأمته.
ـ والشعور الذي يلازمنى دائما تجاه الحيبب محمد صلى الله عليه وسلم هو أنني أشعر بأن لهذا الرجل العظيم دين فى عنقي ، يجب أن نرده إليه ، حبا وكرامة ،وفخرا واعتزازا وموالاة ونصرة لدينه وأمته..
ـ أشعر بهذا الدين لهذا الرجل الكريم كلما رأيت الناس يتخبطون فى متاهات الجهالة ، ويتقلبون بين عبادة البشر والبقر والحمر..
ـ بينما نحن قد أكرمنا الله بهذا الرجل العظيم الذي أخرجنا من عبادة العباد .. إلى عبادة رب العباد .. ومن جور الأديان .. إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن ظلمات العادات إلى نور العبادات.
ـ نعم والله.. أشعر بهذا الدين وأنا أسير مرفوع الرأس منتصب القامة موفور الكرامة،محاطا بيساج من العزة والمجد ، صنعه هذا الرجل ، الذي أخرج أمة كانت خير أمة أخرجت للناس ، أنارت السبيل وفتحت مشارق الأرض ومغاربها وأسست إمبراطورية تمتد من الهند الى المحيط الأطلسي .
ـ فتحت بالحق وحكمت بالعدل ، فقد كانت لسيوف الفاتحين المسلمين أخلاقا ً، بل كانت كمشرط جراح تبرق بفكرة الشفاء والخلاص من الألم.
ـ كان صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا ً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ، ثم يضع له ولجنوده ميثاقا ً أخلاقيا ً رفيعا قائلا لهم: اغزوا على بركة الله ، اغزوا ولا تغلوا ، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا ولا امرأة ،ولا تقطعوا شجرة ولا تهدموا ديرا ولا صومعة.
ـ ولما رأى صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة غضب غضبا شديدا وأنكر على أصحابه ونهى عن قتل الأطفال والنساء.
ـ ولقد عرف التاريخ أن فتوحات المسلمين كانت رحمة وبركة ، تجسيدا للرسالة الخالدة التي بعث بها نبي الرحمة ورسول الهداية ، الذي بعث حمة للعالمين.
ـ إن الإمبراطورية التى أسسها المسلون على نور التوحيد ، والتى امتدت من أطراف الجزيرة العربية إلى خليج القسطنطينية شطر الشمال إلى حدود الصين وما وراء نهر السند شطر الشرق وإلى بحر الظلمات ، هناك حيث دفع عقبة بن نافع فرسه فى البحر صائحا لو علمت أن وراءك أرضا لسرت غازيا فى سبيل الله..ثم إلى نهر اللوار فى فرنسا وإلى أرجاء أخرى .
ـ سار المسلمون مقاتلين ومصالحين ، يفرقون الجيوش المجتمعة بالقهر على الباطل ليجمعوها بالعدل على الحق، ويدمجون الأقوام والألوان فى إخوة الاسلام.
ـ حتى لما توقف زحف المسلمين، عندما بدا واضحا أنهم يمكن أن يكتسحوا أوربا ، ثم حدثت موقعة بلاط الشهداء سنة 732 م / 114 هجرية.. والتي امتحن فيها المسلمون وقتل كثير منهم ، وانتصر شارل مارتل على عبد الرحمن الغافقي.. روى الرواة أن الناس لبثوا حقبة يسمعون الآذان ، أذان الشهداء فى بلاط الشهداء ، لم يسمعوا فى الأفاق ولا فى أنفسهم طبل الحروب ولا صلصلة السيوف ولا صياح المحاربين، ولكنهم سمعوا الآذان شعار التوحيد والايمان والصلاح والفلاح.
ـ ذلكم كان مقصد هذه الوقائع وشعارها وسرها وعلانيتها ، فلم تكن فتوح المسلمين فتوح استعمار وجباية وإنما كانت فتوح تحرير وهداية ، شعارها ..الله اكبر..الله اكبر
هي صيحة تجيء بها أيام مجد أيام كان أذاننا بعد الشر مطبق
إنا إذا فزنا بأرض زرعها خضرا بقى الله اكبر ومضة لكنها لا تحرق
بل ضاءت الدنيا بها لما تلاها الغافقى
ـ أعود فأقول .. أشعر بهذا الدين للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الذي علمنا مكارم الأخلاق ، وترك لنا ميراثا أخلاقيا عظيما مثل منظومة أخلاقية رائعة متكاملة ، تتميز بالشمول والوسطية لا غلو فيها ولا تفريط، عنوانها..إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق.
ـ لقد وصل العالم اليوم إلى مرحلة خطيرة من الانهيار الأخلاقي ، تبدلت معها المعايير والقيم وانتكست الفطر ، حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا ، فعندما أرى الذين يتسافرون تسافر الحمر على قارعة الطريق أو الذين يقننون للشذوذ فى مجتمعاتهم، أشعر بنعمة الله علينا ، الذي أرسل لنا هذا الرجل الكريم الذي علمنا العفة والطهارة وجعلها عنوان المسلم عندما قال صلى الله عليه وسلم "ليس المسلم بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء".
ـ نعم.. من حقنا أن نفخر برسول الله ونحتفى به احتفاء يليق بمقامه ومكانته ، بأن نجدد العهد والولاء له ، بالسير على هديه وشريعته ، والنصح لدينه وأمته ، واستشعار المسئولية تجاه هذا الدين والأمة ، التى يسعى أعداؤها لتجريد أهلها من هويتهم وانتمائهم ، وتقطيع أوصالها وتمزيقها طوائف وشيعا ً..
ـ لذا يجب أن تصبح الكلمة العليا اليوم هى الحفاظ على وجود الامة ومصيرها وثقافتها وهويتها ، وهذا يتطلب منا نحن العاملين للإسلام الإصغاء جيدا إلى متطلبات العيش فى مجتمعاتنا .. بل وفى حالات البؤس الحضاري والديمقراطي داخلها ، وذلك بتجديد الوعى بسعة الامكانات، وتقديم مشروع اسلامي حضاري تمتزج فيه الاصالة والمعاصرة..
ـ وهنا تدعو الحاجة وبالحاح إلى عودة العالم المجتهد الذي يتعامل مع الواقع ليسخره لخدم هذا الدين وهذا الوطن.. وأيضا بالتجديد داخل الحكم الاصولى من خلال القواعد التى تتحمل هذا دون إخلال أو زيادة. وهذا هو مقصد الاجتهاد والفقه ،وهو ايضا ما يسميه العلماء ( مصالح العباد ) التى جاء الشرع بتكميلها والحفاظ عليها.
ـ ان الدعاة اليوم ،والعاملون للاسلام ، يحملون فوق كواهلهم اعباء كثيرة ، والعمل من خلال القنوات الشرعية والعلنية ، والتركيز على الدعوة وهداية الخلائق ، هى الضرورة التى تفرض نفسها ، لندخر وقتا يمكن انفاقه على الفكر والعمل ، بدلا من إنفاقه فى أمور تضعف ولا تقوى ، تفرق ولا تجمع ،تؤخر ولا تقدم.
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل